تاريخ النشر 28 مارس 2015     بواسطة الدكتور هشام محمد الضلعان     المشاهدات 201

الصرع بين الميثولوجيا والطب

الصرع من الحالات المرضية التي تشغل بال الناس وتثير اهتمامهم ، ليس بما يكتنف هذه الحالة من غموض في اسبابها واعراضها وعلاجها ، وما تحاط بها من هالة وقدسية وما يحاك حولها من اساطير وخرافات فحسب . بل وبما يترتب عليها من مضاعفات ونتائج سلبية على المريض الى حد الرفض الاسري له ، وعلى الاهل من عناء وم
شقة ونفقات مالية وجهد حثيث في التعامل مع الابن المصاب بالصرع .
تعريف :
الصرع ليس مرضا بحد ذاته ، بل هو عرض من اعراض امراض اخرى تصيب الدماغ (المخ ). ويمكن ان نعرفه على اساس فسيولوجي واساس سريري :
فسيولوجيا :
الصرع عبارة عن عملية تفريغ كثيف (شديد) سريع مفاجئ ، متناوب وموضعي للعصبونات ( الخلايا العصبية ) الموجودة في المادة السنجابية (الرمادية ) في قشرة الدماغ ، فموضع الخلل موجود في هذه المنطقة ، ولا يوجد اي مبرر او دليل على وجوده في اي مكان آخر خارج المادة الرمادية للدماغ .
اما سريريا فالنوبة الصرعية عبارة عن اضطراب نمطي ومتقطع في المزاج والعواطف والوعي اوظائف الحركية والادراكية والحسية ناجمة عن التفريغ العصبوني المذكور آنفا .
البدايات :
الصرع معروف منذ العصور القديمة ، وكان يطلق عليه اسماء عديدة منها :
"داء هرقل " لان الامبراطور الروماني كان مصابا به وكذلك اطلق عليه اسم "الداء الالهي "والداء المقدسي" والداء الهابط ونظرا للدهشة المفزعة التي كانت تنتاب الشخص الذي يشاهد ما يجري للمصاب بنوبة الصرع فقد اطلقوا عليه اسم إبلبسياوهي كلمة اغريقية تعني "المسكة او الصرعة" ، ومن الاسماء التي اطلقت على الصرع : ام الصبيان ، النقطة القرينة ، التكريزة والشمرة ، واطلق عليه الرومان اسم " داء الكوميشيا " ( والكوميشيا هي اجتماع شعبي واسع يتم فيه مناقشة امور الدولة السياسية والاقتصادية والقانونية والاجتماعية ، فهو يشبه مجلس الامة حاليا ) وذلك بسبب انفضاض الاجتماع وهلع الحاضرين عند حدوث نوبة صرعية لاحد الحاضرين للاجتماع ( الكوميشيا).
إن اول ذكر صريح ورد في قانون حمورابي في القرن الثامن عشر قبل الميلاد ، حيث نص على ان من اشترى عبدا وثبت انه مصاب بالصرع خلال شهر من شرائه فيحق له ان يعيد العبد الى صاحبه ويسترد الثمن الذي دفعه ، وكان الصرع يتصف بالاسطورية والخرافية ، فيعزوه الناس لاسباب ميتافيزيقية ( غيبية) وكانوا ينظرون للمصاب بالصرع نظرة تجمع بين التقدير والاحترام من ناحية وبين الخشية منه من ناحية اخرى بسبب اعتقادهم ان رأس المصاب استوطنته روحا ذات قوة خارقة ، وهي قد تكون روحا ربانية او روحا شيطانية وهذا ما اعطى المصاب بالصرع الهيبة والخشية والقدسية ، وكانوا يعزونه مرة للاله وتارة للشيطان واحيانا للريح او الاشباح ، ويقولون للمريض مسكون اومركوب من جن او شيطان او روح شريرة دخلت الى المخ ، حتى ان بعض المصادر العلمية تقرر ان الثقوب الموجودة في الجمجمة وجدت ليخرج منها الشيطان ، وحتى القرن التاسع عشر الميلادي ظل الناس بمن فيهم الاطباء يعزونه لاسباب تتعلق بالنزوات والشهوات " كالاستنماء " ( العادة السرية ) والافراط في ممارسة العلاقات الجنسية وتعاطي الدخان ، وعلى العموم القيام بأي عمل لا اخلاقي . ويعتبرونه نوبة عصبية ونوعا من " الجنون" ويصنفه الاطباء من ضمن الامراض العصابية وهي جزء من الامراض العقلية ، وما زال الخلط بين الصرع والامراض العقلية سائدا في الاوساط الشعبية حتى يومنا هذا ، ففي الجزائر مثلا يصف الناس نوبة الصرع حسب شدتها باسماء تدل على هذا المعنى للصرع ، فيقولون :
- يطيح : إذا كانت الوبة مجرد فقدان للوعي
- يكرز : إذا كانت النوبة فقدانا للوعي مصحوبا بتشنجات
- مقرون ( القرينة) : إذا صاحب فقدان الوعي اضطرابات في المزاج والسلوك .
وكان الطبيب والعالم الاغريقي ابقراط الملقب " ابو الطب " قد نفى عن الصرع صفة الالهية والقسية ، فقال بأن الصرع لا يختلف عن الامراض الاخرى في شيء وفي ان الاسباب التي تسببه هي اسباب طبيعية وليست روحية . ثم جاء الطبيب والعالم المسلم ابو بكر الرازي ليقرر في كتابه " الحاوي " ان اسباب المرض إنما توجد في المخ ، فكتب يقول :"الصرع تشنج يعرض في جميع البدن إلا انه ليس بدائم لان علته تنقضي سريعا، وما ينال فيه الاعضاء التي في الرأس من جميع الجسد من المضرة يدل على ان توالد العلة إنما هي في الدماغ . وبهذا الكلام الواضح يكون الرازيٍ ققد حدد سبب المرض الحقيقي وأنه سبب مادي ، طبيعي يصيب المخ ، فيكون قد سبق العالم الاوروبي جاكسون الذي عاش في أواخر القرن التاسع عشر وافترض وجود بؤرة  الصرع في الدماغ .
الوبائية :
الصرع بنتشر عند جميع الامم والاعراق ويصيب الناس في جميع الاعمار بدء من الشهر الأول من العمر ومرورا بالطفولة والشباب والكهولة والشيخوخة ، ولكنه ينتشر بين الأطفال اكثر من الشباب لأسباب تتعلق بقابلية الوراثة وضعف المناعة وبالتلي إصابتهم بالأمراض الفيروسية والجرثومية وكذلك الإضطرابات الإستقلابية والتشوهات الخلقية ، ونقص الاوكسجين والشد على الرأساو الشفط بسبب عسر الولادة ، وكذلك تأخر نضوج الجهاز العصبي ، ثم يزداد في مرحلة الشيخوخةبسبب كثرة الامراض التي تصيب كبار السن مثل اورام الدماغ ، والإحتشاء الدماغي ، وضمور الدماغ وهو يصيب الذكور اكثر قليلا من  الاناث ، وتشير الأدبيات الطبية ان 50% من الحالات تظهر قبل سن العشرين من العمر ، ولكن أظهرت دراسة أجريتها أنا شخصيا في المستشفى الجامعي في مدينة قسنطينةبالجمهورية الجزائرية سنة 1981 على 42 حالة أدخلت المستشفى أن مانسبته 75%من الحالات هي لأشخاص تتراوح أعمارهم مابين 1-20 سنة ، وجاءت هذه النتيجة متوافقة مع دراساتأجريت في فرنسا في تلك الفترة .
أنواع الصرع :

هناك تصنيفات عديدة لنوبات الصرع ، ولكن حتى لا ندخل في تفاصيل لا تناسب غير ذوي الإختصاص فإننا نرى أن نكتفي بذكر التصنيف المقبول عالميا والذي وضعته الجمية العالمية لمكافحة الصرع والذي يصنف النوبات حسب كونها موضعية أو منتشرة عامة ، ويقسمها الى نوعين رئيسيين كل نوع منهما يشتمل على أنواع فرعية اخرى ، وهما:
اولا : النوبة العامة : وهي تشمل جميع الجسم وقد تكون كبيرة ومظاهرها شديدة ومتنوعة ، وقد تكون أقل شدة وأهم علاماتها فقدان عميق للوعي إلى جانب علامات أخرى ، وقد تكون مجرد فقدان بسيط للوعي ، وهي تشمل جانبي الجسم ولا يوجد فيها أعراض بؤرية .
ثانيا : النوبة الجزئية وهي إما أن تكون بسيطة أومعقدة ، والبسيطة يكون فيها الوعي سليما ، وتظهرفقط علامات حركية أو حسية او عضوية او تلقائية فتكون مصحوبة بمزاج وسلوك مضطرب وانخفاض في مستوى الوعي وتلقائية  وعادة ما تظهر في الفص الصدغي .
اولا : النوبة العامة : أهم أنواعها هما :
الداء الكبير التوتري – الرجفاني والداء الصغير .داء الشدوة أو الغياب . 
أ -    الداء الكبير التوتري – الرجفاني (الرمعي) ، عادة يظهر هذا الداء في العقد الثاني من العمر و 90%من النوبات تحدث بعد الاستيقاظ من النوم في أي ساعة من اليوم ، وكذلك وقت الاسترخاء مساء ، وعادة تسبق النوبة مرحلة قبلية تدعى مرحلة الانذار ولكنها هنا غير موجودة فلا يشعر المصاب بعلامات تنذره بدنو حدوث النوبة وهي تمر بثلاث مراحل 
أ – مرحلة التوتر او التصلب : تبدأ النوبة بصرخة شديدة تحدث بسبب انقباض الحنجرة وعضلات التنفس والحجاب الحاجز وفتحة المزمار ، ويفقد المريض الوعي ، ويسقط بشدة بشكل مفاجئ على الارض ، وتحدث التشنجات التي تنتشر الى كل الجهاز العضلي الإرادي ، فتتمدد الاطراف وتتصلب ويتوقف التنقس ويزرق لون الوجه وتشخص العينان لأعلى ، وتتسع الحدقتان ولا تستجيبان لأي منبه ، ويصتك الفك السفلس على الفك العلوي وغالبا ما يحدث عض اللسان والشفتين ، ويمتلئ الفم باللعاب الذي يظهر على شكل زبد ورغوة ، وكذلك يحدث التبول اللاإرادي بسبب انقباض المثانة وأحيانا يحدث التبرز وتستمر هذه المرحلة من 25 -30 ثانية .
ب- المرحلة الرجفانية او الاهتزازية ( الرمعية ) : تبدأ هذه المرحلة بشهقة تشنجية ، ويتغير لون الوجه من الأزرق الى المحتقن ، ويكون معرضا لخطر الإختناق ، وتحدث حركات إهتزازية في جميع أنحاء الجسم فتتحرك يداه ورجلاه ، ويتقلب على ظهره وبطنه وجوانبه ويحاول النهوض ولكنه يسقط ثانية وتستمر هذه الحالة من دقيقة ونصف الى دقيقتين تنتهي بالإرتخاء العضلي .
ج – مرحلة الغيبوبة : بعد انتهاء المرحلة الإهتزازية يحدث للمريض ارتخاء تام في جميع عضلاته فيسهل التنفس ، ويدخل في غيبوبة عميقة تستمر من 10 – 15 دقيقة وقد تتحول الى نوم عميق لعدة ساعات ليسيقظ بعدها وهو لا يعلم ولا يشعر بأي شيء مما حدث له . وفي بعض الحالات تظهر على المصاب حالات ذهانية أهمها ما يظهر من آليات حركية بعد النوبة حيث يحاول النهوض ويتعلق بأي شيء في متناول يده ، ويتفوه بكلمات متقطعة المفاصل غير مكتملة وغير مفهومة ولا يتعرف على أحد ممن حوله وهي غيبوبة ذهولية تمتد من دقائق الى ساعات، ومن علاماتها كف الادراك وصعوبة الكلام والنسيان الرجعي . 
2-الداء الصغير او الغياب او السرحان :
عبارة عن نوبة من فقدان الوعي البسيط غير مصحوب بتشنجات ولا رجفان وتبدأ بأن يصفن المريض فجأة ، ويحدق ببصره للامام او الأعلى فيبدو على هيأة سرحان ، او شدوه ويتوقف عن اداء العمل الذي كان يؤديه. وقد يحتفظ المصاب بهيئته التي هو عليها ويمكن أن يستمر أو يتابع العمل الذي كان يؤديه بصفة آلية ودون شعور ، فمثلا قد ينتقل من الكلام الواضح الى التمتمة المفككة ، وإذا كان يعزف موسيقى يستمر في دق لوحة مفاتيح الآلة الموسيقة بدون انتظام وتستمر هذه النوبة من 5 – 15 ثانية ، ويكون المريض في حالة تشبه الإغماء او الخفوت ، وينهي النوبة بابتسامة سطحية لا معنى لها ولا يتذكر شيئا مما حدث معه ، وفي بعض الحالات قد يشحب لوت الوجه ويعلك ويتمتم بعبارات غريبة ويقوم بحركات عضعضة دون ان يشعر بشيء من ذلك . وفي 30 %من هذه الحالات تختفي النوبات نهائيا عند عمر 15 سنة وقد يرافق هذه النوبات ما يعرف بالمتعادلات النفسية أو السبورات الصرعية ، وتسمى المتعادلات لمفاجأتها وطابعها الاستطرادي وشببها للأعراض التحذيرية الشبيهة بالعرض الأولى للصرع ، والسلوك الشديد العنف ، فقد يرتكب المصاب جريمة قتل فظيعة ولا يعلم عنها شيئا سوى شعور غامض بأنه قد فعل شيئا ما ، فمثلا أحد المرضى ركب أثناء النوبة سيارة أجرة وقتل سائقها وألقى الجثة داخل السيارة وقادها وعاد بها الى منزله ، فدخله وترك السيارة أمامه ، وعندما حضر رجال الشرطة كان يقف على الشرفة يبتسم كأنه يرشدهم على نفسه . ومن أبسط  المتعادلات النفسية  أن يستمر المريض في أداء العمل الذي كان يعمله قبل بدء النوبة – رغم فقدانه للوعي – بطريقة غير صحيحة ، فمثلا إذا كان يمشي فإنه يتابع سيره في نفس الاتجاه الذي يقصده لكنه لا يصل الى المكان المقصود ، وإذا كان يكتب فإنه يستمر في الكتابة ولكن كلمات وألفاظ وعبارات غير مترابطة ولا تؤدي الغرض ، ومن المتعادلات النفسية حلات الرؤى الشفقية التي منها غفوة الصرع وهي آلية تجولية يقوم فيها المصاب بالسفر من مكان الى آخر مع القيام بشراء تذاكر السفر والذهاب الى محطة القطار أو موقف الباصات والتحدث الى المسافرين ، ولما تنتهي النوبة ويجد نفسه في هذا المكان لا يعرف لماذا هو هنا .
3-النوبة العامة التصلبية :
وهي حدوث الدور التصلبي دون ان يتبعه الدور الارتجاجي مع بقاء نفس المراحل الذكورة في النوبة التصلبية – الارتجاجية ، وما بعد النوبة أخف من الأولى
4- النوبة العامة الارتجاجية :
وفي بعض الحالات يحدث الدور الارتجاجي دون ان يحصل الدور التصلبي مع بقاء نفس المراحل ، وكذلك ما بعد النوبة أخف وأقصر
5- النوبة الارتخائية أو اللا تصلبية :
تتصف بارتخاء عضلات الجسم جميعها بشكل مفاجئ بسبب تثبيط الحزم العصبية الحركية الشوكية – الشبكية فلا يقوى المصاب على الوقوف قيسقط على الارض لفترة وجيزة جدا لا تتعدى بضع ثوان قد يحصل فيها فقدان للوعي .
6- النوبة اللا حركية :
وهي تشبه النوبة الارتخائية ولكن دون فقدان للوعي ودون اية حركات عضلية .
   يتبع في الحلقة القادمة متابعة الحديث عن النوبات الصرعية الجزئية البسيطة منها والمعقدة ، وكذلك الحالة الصرعية العنيدة ثم نتحدث عن تفريق النوبة الصرعية عن غيرها من الامراض التي تتصف بفقدان الوعي أو السقوط على الارض ، وكذلك نتحدث عن أسباب الصرع في مختلف مراحل العمر


أخبار مرتبطة