أعراض عبدالله مطابقة لنوبة الهوس، التي تصيب مرضى الاضطراب ثنائي القطب. وهو مرض نفسي دماغي معروف، يصيب قرابة ١-٣٪ من عامة الناس. وتلعب الوراثة دوراً كبيراً في الإصابة به، فتزيد نسبة الإصابة به إلى قرابة 50% لدى التوأم وحيد اللاقحة، و15 % إذا كان أحد الأبوين مصاباً به، و30 % إذا كان كلا الأبوين مصاب به.
مشهد (2)
المكان: إسعاف مستشفى المدينة العام
طبيب الإسعاف:
لا بد أن تسرع بنقله لأقرب مستشفى نفسي لنا، وهو (مستشفى الأمل للصحة النفسية) بمدينة الرياض. فللأسف ليس لدينا جناح خاص لتنويم وعلاج المصابين بالأمراض النفسية، كحالات الذهان والهوس والاكتئاب الحادة التي تأتينا هنا، وما أكثرها! بل حتى الطبيب النفسي الوحيد، غادرنا لبلده منذ سنة، ولم يعد إلينا؛ احتجاجاً على ضعف الإمكانيات هنا.
أبو عبدالله:
ابني عبدالله ليس مجنوناً، ولا مدمناً للمخدرات لكي ينوم في مستشفى الأمل!
ثم كيف أنقله وهو في هذه الحالة المتهيجة الخطرة، مسافة ٦٠٠ كم للرياض؟!
كما أنني لا أستطيع ترك عملي وعائلتي لكي أسكن في الرياض بضعة أسابيع ريثما يخرج من مستشفى الرياض!
مشهد (3)
المكان: استراحة الراقي والمعالج الشعبي في طرف المدينة
تكتظ الاستراحة بالمرضى الذين قدموا من كل حدب وصوب، يبحثون عن بصيص الأمل في الشفاء، بعد أن يئسوا من الحصول على الرعاية الصحية الكريمة.
بدأ المعالج بعلاج عبدالله، بعد تكتيفه من مساعديه، بضربه بعصا غليظة على ظهره وقدميه. ثم بدأ بخنق عبدالله عبر الضغط على رقبته، حتى فقد الوعي. وأخيراً، طلب منهم شراء وصفة من صيدلية الاستراحة، لتعطى لعبدالله بانتظام! وهي عبارة عن أعشاب، مخلوطة سراً بأدوية مهدئة، بقيمة ألف ريال، مع أن قيمتها الفعلية لا تتعدى مائة ريال.
واظب أهل عبدالله على مراجعة المعالج في الاستراحة، مع تقييده بسلسلة في ملحق البيت باستمرار، وذلك لضبط سلوكه. وبعد بضعة أسابيع خف هياجه، وتحسن تدريجياً.
التعليق:
عادة، ما تزول نوبة الهوس حتى بدون علاج خلال ثلاث شهور، ولكنها تترك ندبات في النفس وفي الدماغ كلما طالت مدتها بلا علاج فعال. ومالم يتناول المريض، علاجاً وقائياً مثبتاً للمزاج، فإن الانتكاسات تتوالى، وتتدهور تدريجياً صحة المريض الجسدية والنفسية والمعرفية والاجتماعية والوظيفية.
وفي دراسة علمية منشورة، لكاتب المقالة مع ستة باحثين آخرين، تبين أن قرابة ثلاثة أرباع مراجعي استراحات الرقاة لديهم أمراض نفسية. مع العلم، بأن أغلب الأمراض النفسية قابلة للتحسن التام بفضل الله ثم بفضل العلاج النفسي من أدوية وجلسات. الخ، ثم يعود غالبية المرضى للحياة المنتجة الكريمة؛ ولكن للأسف، لا تتوفر خدمات الطب النفسي المتكاملة إلا بشق الأنفس، وفي المدن الكبيرة غالباً.
وبالطبع، لست أزعم هنا، قدرة الطب الحديث على تشخيص أو علاج كل الأمراض؛ كما لا أنفي جشع القطاع الصحي الخاص، ولا وجود الأخطاء الطبية. ولكن، يتفق الجميع، أن الأطباء يعملون تحت ضوء الشمس، وتحت الرقابة المستمرة، كما يحتاجون لتجديد الترخيص الطبي لمزاولة مهنة الطب كل خمس سنوات؛ بعد أن يثبتوا مواكبتهم لمستجدات الطب المتسارعة، وعدم ارتكابهم لمخالفات مهنية.
وفي المقابل، لا تخطئ العين، كيف استغل بعض الرقاة والمعالجين الشعبيين حاجة الناس! فادعوا علاج كل الأمراض، واستخدموا طرقاً سقيمة، ليس عليها دليل من نقل ولا عقل ولا تجربة، وكلّفوا المرضى مبالغ طائلة. وهم يعملون في استراحات خاصة بهم، بلا حسيب ولا رقيب؛ فالداخل إلى بعض استراحاتهم مفقود، والخارج منها مولود، والناس فيها دود على عود!!!
أما الرقية الشرعية، فلا شك أنها (إحدى) الوسائل الوقائية والعلاجية لمختلف الأمراض الجسدية والنفسية، وهي هبة ونعمة من الله كما هو الدواء، سواء بسواء. وقد استخدم المصطفى صلى الله عليه وسلم معظم الوسائل العلاجية المتوفرة في عصره، لأنه كان يوعك كما يوعك الرجل مرتين؛ ولذا فلا غرو أن تعلمت عائشة رضي الله عنها الطب. كما عالج الحارث بن كلدة، وهو طبيب نصراني، بعض الصحابة بأمر المصطفى صلى الله عليه وسلم. وحري بالمسلم أن يرقي نفسه بنفسه، وعند الضرورة، يطلب ذلك من موثوق. ولكن الخطورة كل الخطورة، أن يُسمح لبعض الجهلة برقية الناس وتطبيبهم في الأقبية المظلمة، والاستراحات الخاصة بلا رقيب ولا حسيب!
مشهد (4)
الزمان: بعد سنة من النوبة الأولى
لاحظت أم عبدالله سوءاً تدريجياً في مزاج ابنها عبدالله، وميلاً للبكاء والعزلة. لقد أصبح حزيناً، فاقداً للبهجة، قليل الكلام والحركة، ولا يهنأ بطعام ولا نوم، ثم انقطع عن الذهاب لجامعته، وعن الصلاة في المسجد. لكنه هذه المرة، لم يكن متهيجاً، فلم يحفل والده وقرابته بعلاجه بسرعة كما حصل في نوبة الهوس الآنفة الذكر.
وفي صباح يوم حزين، فشلت أم عبدالله في إيقاظ ابنها من نومه، فنقلوه بسرعة للمستشفى ليتوفى هناك خلال ساعات.
وقد أظهر تحليل الدم، أن سبب وفاته تناول جرعة مفرطة من المخدرات. وفي اليوم التالي، وصلت رسالة نصية لأهل مدينته الوادعة، تدعوهم للصلاة على عبدالله، الذي توفي بحسب الرسالة، بسبب نوبة قلبية مفاجئة!
ولقد تفطر فؤاد أم عبدالله أو كاد حزناً على فراق ابنها. وتالله لن يشعر بمقدار ألمها إلا من فقد ابنه منتحراً، ويا له من حزن! ويا لها من حسرة!
التعليق:
ما حدث لعبدالله هو أنه أصيب غالباً بنوبة اكتئاب حادة، وهي أحد قطبي (الاضطراب ثنائي القطب). والأرجح أن عبدالله حاول يائساً أن يخرج من دوامة الاكتئاب السحيقة، فاستخدم المخدرات. وهي بدورها، بالإضافة لنوبة الاكتئاب، والصدمات النفسية والتعذيب الذي طال المريض أثناء نوبة الهوس، كل هذه العوامل، ساهمت في انتحاره بتناول جرعات مفرطة من المخدرات. وقصة عبدالله رمزية، لكن أمثالها ما زال يتكرر للأسف في مناطق مختلفة من المملكة، وذلك بسبب ضعف وسوء توزيع خدمات الصحة النفسية في دولة بحجم قارة،كدولتنا الحبيبة حرسها الله.
وقد ثبت علمياً، ازدياد معدلات الإدمان لدى المصابين بأمراض نفسية شديدة الوطأة، فتصل قرابة 60% لدى المصابين باضطراب ثنائي القطب؛ وتزداد خصوصاً عند ضعف أو انعدام الرعاية الطبية النفسية.
ولذلك، لا غرابة أن ينشط تجار المخدرات في المناطق التي تضعف فيها خدمات الرعاية الطبية النفسية، أو يرفض أهلها تلقي العلاج النفسي في المصحات النفسية المعزولة، والتي تُوصم في المجتمع للأسف بأنها دار للمجانين!!!
ولا توجد إحصائيات دقيقة عن نسبة المنتحرين في السعودية، بسبب حساسية الموضوع لدى المجتمع. وغالباً ما تبتعد الجهات المعنية عن كتابة السبب الحقيقي للوفاة المفاجئة، وتستبدل كلمة (انتحار) بكلمة (سبب غير محدد أو تسمم دوائي). وفي دراسة لم تنشر بعد لأحد المتخصصين في الطب الشرعي، وجد أن ما يزيد عن ثلاثة أرباع شهادات الوفاة تحتوي أسباباً غير دقيقة لأسباب الوفاة!
مشهد (5)
المكان: مدينة الرياض
الزمان: شعبان 1436
وزير الصحة يوقع اتفاقية مع شركة (سابك) لإنشاء مستشفى سابك التخصصي للصحة النفسية وعلاج الإدمان بمدينة الرياض.
التعليق:
لم يسعد كثير من المهتمين بالصحة النفسية في السعودية بهذا الخبر!!! لأنه يعكس التخبط في تخطيط وتنفيذ خدمات الصحة النفسية في السعودية. فهل يجدي بناء المزيد من المصحات النفسية المعزولة! وهل نجح دمج الصحة النفسية مع الإدمان فيما مضى! أم أنه ضاعف الوصمة على كليهما!
وهل يجدي بناء هذا المستشفى في مدينة الرياض رغم وجود مستشفى صحة نفسية آخر، وخدمات نفسية في المستشفيات الجامعية والعسكرية والتخصصية الأخرى! وماذا عن باقي مدن منطقة الرياض التي تبلغ مساحتها حوالي (380.000كلم2 )! وما يقال عن منطقة الرياض، يقال عن غيرها من مناطق مملكتنا الغالية.
ولو عدنا للوراء قليلاً، لرأينا بجلاء التصريحات المتناقضة لأصحاب القرار الصحي حول الصحة النفسية. فقد أكد مسئول صحي كبير في السعودية قبل أكثر من عقد من الزمان أن مجتمعنا محصن من الأمراض النفسية، وذلك بحكم تمسكه بالشريعة الإسلامية، ثم أتى مسئول صحي آخر بعده ببضع سنوات، ليؤكد وجود 15 ألف مريض بالفصام في مدينة الرياض وحدها. ولذا لا تستغرب عزيزي القارئ، تضاعف نسبة الانتحار 100% في السعودية خلال العشر سنوات الماضية، وذلك حسب الإحصائيات الرسمية. ولست متشائماً، عندما أعتقد أن نسبة الانتحار ستستمر بالارتفاع الملحوظ، إذا ما استمرت أوضاع الصحة النفسية لدينا كما هي حالياً. فمن الملاحظ إصرار وزارة الصحة على التوجه لبناء مصحات نفسية معزولة، وقلة أو انعدام وجود الأقسام والأجنحة النفسية ضمن مرافق المستشفيات العامة والتخصصية. وهذا التوجه يشبه ما كان سائداً في العالم، قبل قرن من الزمان، ومعاكس لما عليه التوجه الصحي العالمي الحالي، من دمج الرعاية النفسية ضمن مرافق المستشفيات العامة.
والحل في نظري، أن يسعى قادة القطاع الصحي في السعودية في توفير فرصة التنويم لكل مريض محتاج، في جناح صحة نفسية لا يبعد أكثر من 50 كم، على الأكثر من مكان سكنه. وبالطبع لن يتحقق ذلك، إلا بتخصيص خمسة بالمائة من أسرة كل مستشفى عام في السعودية لتكون جناحاً نفسياً مجهزاً، لتقديم خدمة التنويم المؤقتة لكل من أصيب بحالات الذهان والهوس والاكتئاب الحادة. الخ. وإذا وجد جناح تنويم نفسي، فذلك مدعاة غالباً لوجود قسم طب نفسي متطور، يقدم خدمات تكاملية وتخصصية، تخدم مرضى أقسام المستشفى العام الأخرى، والمجتمع ككل.
ومن أراد طرحاً علمياً مفصلاً لأسباب الانتحار، فأرجو كرماً أن يطلع على مقال للكاتب عنوانه (لماذا ينتحر السعوديون؟). أما كيف تتحسن خدمات الصحة النفسية في السعودية، فقد تم تفصيلها في مقال آخر للكاتب عنوانه (خدمات الصحة النفسية في السعودية ليست كافية، فما الحل؟)