تاريخ النشر 20 ابريل 2020     بواسطة الدكتور طارق شريف     المشاهدات 1

العلاج النفسي التقني؛ الأمر أكثر من مجرد علاج

كانت التقنية لـ«دونالد أوين كاميرون»، الطبيب النفسي أستكلندي الأصل، رئيس العديد من الجمعيات الطبية ومدير معهد آلان ميمورال بمونتريال بين عامي 1943 – 1965؛ شغفًا يصل إلى درجة الهوس. فبينما أضفت عليه بذلاته التويدية الرثة وجواربه غير المتطابقة طابع عالم شارد الذهن، كان كاميرون مهووسًا بالمستقب
ل، بداية من مجموعته من السيارات المتقدمة، واستخدامه الدائم لآلات الديكتافون الفونوغرافية، إلى أكوام روايات الخيال العلمي المتناثرة على الطاولة الجانبية لسريره.

في الخمسينيات، بدأ هذا الولع بالتقنية يلقي ظلاله على تفكيره ومقاربته للطب النفسي، مما وضع كاميرون رأسًا في مسار تصادمي مع مؤامرات الحرب الباردة. آمن كاميرون أن التقنية، بالإضافة لقدرتها على تسهيل الحياة اليومية، لها أن تشعل ثورة في الطب النفسي، مستنكرًا بطء العلاج التقليدي وعدم فاعليته.

بكل هذا الكلام والإصغاء وبناء الثقة، أخضع كاميرون مرضاه، بدلًا عن ذلك، إلى علاج جديد متطرف يعد بتعجيل عملية العلاج بالطب النفسي. استخدم العلاج الجديد، المسمى بـ«محو الأنماط – psychic driving»، منقذ تقني جديد هو جهاز التسجيل ذو البكرتين.

كان محو الأنماط عملية علاجية من مرحلتين. أولًا، وجب «محو» كل الذكريات المزعجة والسلوكيات المرضية من عقل المريض عن طريق نظام صارم من المعالجة بـ«التخليج الكهربائي – Electroconvulsive therapy».

بينما حد معظم أقرانه العلاج بالتخليج الكهربائي، إلى 12 جلسة في الشهر على الأكثر لتفادي إلحاق ضرر بذاكرة المرضى قصيرة المدى. رفع كاميرون المعدل إلى 12 جلسة في اليوم للاستفاد بذلك التأثير الجانبي. بعد ذلك، يجلس المرضى أمام أجهزة تسجيل، تبث رسائل، في حلقة لا نهاية لها مصممة لدفعهم نحو استنتاجات نفسية معينة.

على سبيل المثال، قالت الرسالة على أحد تلك الأجهزة: «بيجي، لقد اكتشفتِ أن والدتك لم ترغب فيكِ أبدًا، هل ترين الآن لما أغدقتِ بالعاطفة على أطفالك لهذه الدرجة؟ ولما افترسك القلق المرضي عندما قررت ابنتك الانضمام إلى دير؟».

دارت بكرات أجهزة التسجيل صادحة بتلك الرسائل لأيام، أسابيع، وحتى أشهر بدون نهاية، حتى تقهر دفاعات وعي المريض. عندما هاج المرضى من التكرار المُصر الذي لا يتوقف، تم تقييدهم باستخدام طرق قاسية وغريبة، بداية من تثبيت سماعات الأذن بشريط لاصق إلى شل حركتهم بمساعدة مواد مُحدثة للهلوسة.

كانت النتائج مدمرة: بدلًا من التغلب على مشاكلهم النفسية، خرج المرضى بعد العلاج يعانون من فقد ذاكرة حاد، غير قادرين حتى على التعرف على عائلاتهم. جذبت أبحاث كاميرون عددًا من الرعاة، وليس من المثير للدهشة أن تكون «وكالة المخابرات المركزية أحدهم – Central Intelligence Agency».

فبعودة سجناء الحرب الكورية في عام 1953 وما بدا عليهم من «غسل دماغ»، بدأت وكالة المخابرات المركزية في تمويل أبحاث الجامعات والمستشفيات المهتمة بالتعديلات السلوكية. صُمم «مشروع إم كي ألترا – Project MKUltra» لإنتاج تقنيات استجواب لتجسس الحرب الباردة.

لهذا، بدت قدرات كاميرون المزعومة على تفكيك، وإعادة تركيب العقول فرصة لا يمكن تجاهلها. فتم ضخ حوالي 60,000 دولار أمريكي في أبحاث محو الأنماط بين عامي 1957 – 1960. لكن بتجلي آثار محو الأنماط المدمرة، أدركت وكالة المخابرات المركزية عدم نفعه للاستخدام العملياتي، وتم قطع الصلات بينهم وبين كاميرون بسرعة. سيظل تورط وكالة المخابرات المركزية في عمل كاميرون مخفيًا حتى تفجر دعوى قضائية جماعية عام 1980.

بُني إيمان كاميرون في محو الأنماط على تصور خيالي لطب نفسي مستقبلي مميكن، تغلب على أدلة فشله التام الآخذة في التراكم. فمقاربة كاميرون العلاجية لم تنتج عن نظرية نفسانية شاملة، بل استوحت من روايات كرواية «ألدوس هكسلي»؛ «عالم جديد شجاع – Brave New World 1931»، وإعلانات لتسجيلات «التعلم خلال النوم» التي ادعت نقل الطلاقة في اللغات الأجنبية بين عشية وضحاها.

بدا كاميرون غافلًا عن مقدار الأذى الذي تسبب فيه، لانشغاله بمطاردته المحمومة لطب نفسي «آلي»، متجاوزًا الحوارات على الشيزلونج إلى خط تجميع صحة نفسية منتجة بالجملة. يدفعنا محو الأنماط، بقربه من الخيال العلمي، إلى تقييم أكثر نقدية للطب النفسي في القرن العشرين. فهو يكشف كيف تشكل اهتمامات وأولويات المجتمعات معرفتنا بالعقل البشري، فالطب النفسي أبعد من أن يكون مسعى محايدًا موضوعيًا تمامًا ومفصولًا عن الواقع السياسي والحضاري الفوضوي.

هذه ليست وجهة نظر جديدة، فقد قدمت حججًا مشابهة، شديدة الإقناع، منذ أكثر من نصف قرن ماضٍ من خلال كتب مثل «خرافة المرض النفسي – The Myth of Mental Illness 1961» للطبيب النفسي «توماس شاس»، و «تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي – Madness and Civilization 1964» للباحث ميشيل فوكو.

يمد تاريخ محو الأنماط سندًا لهذه الانتقادات، كاشفًا كيف يمكن للضغوط السياسية والفزع الأخلاقي في حقبة الحرب الباردة تشكيل مقاربة المجتمع للمرض النفسي وعلاجه. يمكن لمحو الأنماط أن يخبرنا بشيء عن مستقبل العلاج النفسي وليس فقط عن ماضيه.

في يومنا الحاضر، قليل من الأطباء النفسيين مهمومين بقضايا الشيوعية وغسل الدماغ، لكن إيمان كاميرون الصميم بالدمج المحتم بين التقنية والطب النفسي صامد لدرجة مذهلة. ربما يُرى هذا في الانفجار الحديث في سوق تطبيقات الهواتف الذكية المهتمة بالصحة النفسية، فهناك حوالي 10,000 تطبيق متاح بداية من تتبع «الحالة المزاجية – Mood trackig»، إلى برامج «الوعي التام – Mindfulness»، «مولدات الضجيج الإلكتروني – Ambiant noise»، و«التنويم المغناطيسي المؤلل – automated hypnosis».

سارع المناصرون المتحمسون إلى مدح هذه كعلاجات في حجم الجيب، حلول موفرة في الوقت لتكلفة خدمات الصحة النفسية المالية المرتفعة وقوائم انتظارها الطويلة. على الرغم من ذلك، يجلب محو الأنماط نغمة تحذير لكل هذه الاحتفالات. ربما فشلت أبحاث كاميرون في الكشف عن مؤامرات عالم التجسس الدولي المثيرة، لكنها تذكرنا بوجوب التساؤل عمن ذلك كله في صالحه.

فهناك الكثير المثير للقلق تحت كل هذا التفاؤل بالموجة الجديدة من «العلاج النفسي التقني»: تفتقر هذه التطبيقات، في الأغلب، إلى رقابة طبية خبيرة، فقليل منهم مدعوم بدراسات موثوق فيها تقيم فاعليتهم أو حتى أمانهم وقد كشف تورط العديد منهم في تسريب أو بيع بيانات المستخدمين الصحية إلى أطراف خارجية. من الواضح ضرورة تقصي أعمق تلك القضايا، وتاريخ محو الأنماط يبرر تشككنا اللازم.


أخبار مرتبطة