لله الكونية في وفرة الأرزاق والنصر على الأعداء؛ ألا وهو الاعتناء بالضعفاء أياً كانوا. وقد دلنا المصطفى صلى الله عليه وسلم على ذلك بقوله” ابْغُونِي فِي ضُعَفَائِكُمْ، فَإِنَّمَا تُرْزَقُونَ، أَوْ تُنْصَرُونَ بِضُعَفَائِكُمْ “.
وبحكم عملي في مجال الطب النفسي الجسدي، فقد سنحت لي الفرصة أن ألتقي بأصناف من هؤلاء الضعفاء. والجامع بينهم، أن ضعفهم ومرضهم قد أعجم ألسنتهم فلم يستطيعوا إيصال مطالبهم للمجتمع، لكن أفئدتهم تنطوي على مرارة وحزن -لو تعلمون-عظيم. ولذا سأفرد لمعاناتهم هذه المقالة، وأحاول أن أتحدث بلسان حالهم، راجياً من الله العون والسداد.
فَلَو نطق عبد الرحمن (والمصاب بمرض الفصام من النوع الشديد)، لقال:” كنت طالباً متفوقاً بأحد الكليات الشرعية، عندما طحنني اضطراب الفصام بكلكله، فتركني شبه مجنون، والحمد لله على ما قضى وقدر. لكنني أتساءل بمرارة، أي ذنب جنيته لكي أعيش شريداً طريداً! أليس هناك مكان ثالث يمكنني العيش فيه بكرامة، غير مستشفى الصحة النفسية أو افتراش الأرض والتحاف السماء في العراء. لقد صُممت مستشفيات الصحة النفسية كباقي المستشفيات، لتكون مكاناً مؤقتاً لعلاج الحالات الحادة؛ وليست مهيأة بحال، لتكون ملاذاً كريماً وسكناً لائقاً للمشردين. وللأسف فإن (بعض) هذه المستشفيات؛ يفتقر لأبسط حقوق الإنسان! وليتك أيها المسئول، تزور(عنابرنا) على غرة، ذات مساء، لترى ما تتفطر له الأكباد! وليس الخبر كالمعاينة”.
أما أبو عبد الله، الطبيب السابق (والمصاب بخرف ألزهايمر)، فيقول: “لقد عشت زهرة عمري، أطبب الناس في العيادات وفي غرف العمليات في المستشفيات. وفي بحر السبعين من عمري، عاث الألزيهايمر بضراوة بين تلابيب دماغي، فأصبحت عاجزاً عن القيام بنفسي، فلا آكل ولا ألبس، بل ولا أقضي حاجتي بلا مساعدة، وما أقساه من شعور! أليس من حقي أن أعيش حياة كريمة في دور مهيأة لرعاية أمثالي؛ بدلاً من مكابدة الليال الطوال، أكفكف دمعي السخين، بين جدران أربعة، وأيدي خادم غليظة تتمنى موتي عاجلاً غير آجل”.
وهكذا تتوالى الآهات من أناس أقعدهم المرض وأعجم ألسنتهم، بعد أن كانوا ملء السمع والبصر؛ كالمصابين بحوادث السيارات، والأمراض الخطيرة الانتهائية كبعض حالات السرطان والسكتات الدماغية…. الخ. والقائمة لا تنتهي، ممن انقلب به الحال، فأصبح لا حياً فيرجى ولا ميتاً فينعى. فلو نطق بعض هؤلاء لقالوا، “يا لبؤس هذه الحياة التي نقاسيها! فليست الحياة هي تناول الغذاء والدواء فحسب! بل نريد مع ذلك الرعاية النفسية والاجتماعية، التي تكفل لنا حياة ذات جودة أفضل”.
وبعد، أيها القارئ الكريم: ففي المجمل، أعتقد أن المشكلة ليست مادية في جوهرها. ففي بلادنا ولله الحمد والمنة، تُنفق أموال طائلة على الصحة؛ لكن الفرق بيننا وبين الدول المتقدمة، أنهم يصرفون قرابة 15٪ من ميزانية الصحة على خدمات الصحة النفسية والاجتماعية، بينما في غالب الدول العربية لا تتجاوز النسبة 2٪. وبينما نهتم أحياناً بشراء أحدث موديلات الأجهزة الطبية، تجدهم هناك في الدول المتقدمة، ربما يكتفون بموديل أقدم طالما لم يختلف جوهرياً عن الطراز الأحدث، ويوفرون هذا المال لتقديم الرعاية المتكاملة (البيولوجية والنفسية والاجتماعية) للمرضى المزمنين والمصابين بأمراض انتهائية.
وبفضل الله تعالى، ثم بفضل تحسن الخدمات الصحية في السعودية، فقد ارتفع مأمول العمر عند الولادة (متوسط العمر المتوقع)، من 46 عاماً سنة 1960، إلى 76 عاماً سنة 2015. ويتوقع أن تصل ل 82 عاماً بحلول 2050 بإذن الله. وهذا يعني زيادة مطردة في أعداد حالات المصابين بأمراض مزمنة، مقعدة عن الحياة. في المقابل، هناك ضمور متسارع في أعداد العائلات ذات النمط الممتد، وازدياد في أعداد العائلات الصغيرة (العائلة النواة الحديثة) التي تعيش في شقق صغيرة، مع عمل الأبوين خارج المنزل. وهذا يجعل من رعايتهم للمصابين بأمراض مزمنة مقعدة أمراً شاقاً. ولذلك، يتحتم علينا استباق هذه التغيرات الديمغرافية والاجتماعية بحلول إبداعية متنوعة. وفي هذا السياق، سأختم مقالتي ببعض التمنيات:
-أتمنى أن يتنافس الأطباء والمختصون النفسيون والاجتماعيون وغيرهم من التخصصات ذات العلاقة في طرح الحلول الإبداعية لسبل تقديم الرعاية الكريمة المتكاملة لهؤلاء الضعفاء. ومن ذلك، التوسع في إنشاء مراكز العلاج النهاري والتأهيل النفسي وبيوت منتصف الطريق ودور الإيواء؛ وذلك لتقديم الرعاية طويلة الأمد للمرضى النفسيين المزمنين، وتقليل ظاهرة التشرد بينهم. وكذلك لابد من تشجيع القطاع الصحي الخاص على تطوير خدماته النفسية، مع إجبار شركات التأمين الصحي على إدراج علاج الأمراض النفسية ضمن الأمراض المكفول علاجها في بوليصة التأمين العلاجية. وبالطبع، لن نعيد اختراع العجلة من جديد، فلا بد من الاستفادة من تجارب الدول المتقدمة في هذا المجال، وكذلك توصيات منظمة الصحة العالمية، والجهات ذات العلاقة.
– أتمنى أن يتنادى الدعاة والمثقفون وأصحاب المنابر لنشر ثقافة (تقديم الرعاية للضعفاء)، بما في ذلك، تشجيع التطوع بالجهد والمال، وتوجيه أموال الأوقاف والتبرعات لهذا الأمر.
-أتمنى أن يجتمع مسئولو وزارتي الصحة والشئون الاجتماعية بشكل دوري، ليذللوا العقبات البيروقراطية التي تعرقل إنشاء دور الرعاية الكريمة بشتى أنواعها. فلو سُئل أصحاب الأموال، لماذا يتجنبون توجيه مصارف الأوقاف لدعم الضعفاء بدلاً من بناء المساجد مثلاً؟ لأجابوا بأن السبب، هو عدم وجود حزمة متنوعة من الأفكار الوقفية لدعم الضعفاء، المدعومة لوجستياً من الجهات الرسمية ذات العلاقة؛ فلا يبقى بعدها للمتبرع دور سوى أن يختار من المشاريع المعروضة ما يعجبه.
– أتمنى أن يسخّر المسئولون وأعضاء المجالس البلدية في كل ناحية من بلادي كل الإمكانيات لتسهيل قنوات التطوع المتنوعة التي تناسب كل الأعمار، وكلا الجنسين، ليقدم كل أحد ما بوسعه لدعم الضعفاء. كما أن جهات التوظيف الحكومية والخاصة والجامعات، مطالبة بتثمين الجهود التطوعية لطالبي الوظائف ومقاعد الدراسة الجامعية والدراسات العليا، وجعلها إحدى الشروط الرئيسية للحصول على ذلك.
– أخيراً، أتمنى أن نستقطع جميعاً ساعة واحدة على الأقل أسبوعياً، من الأوقات التي نهدرها في شبكات التواصل، وذلك لتقديم المساعدة لهؤلاء الضعفاء-كل بحسبه-ولو أن يتعاهد أحدنا أقاربه الضعفاء بالتواصل الهاتفي والزيارة. وذلك شرف عظيم، ومنزلة سامقة لا يوفق للوصول لها إلا من أراد الله به خيراً.
قفلة: في زمن تكالب فيه علينا الأعداء، وشكا الناس فيه من غلاء الأسعار، وضيق الأرزاق؛ لن تُستمطر رحمات الله ومدده، بمثل العناية بالضعفاء ” وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم”
“ “اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ، وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ، وَحُبَّ الْمَسَاكِينِ”
د.فهد بن دخيل العصيمي
أستاذ مشارك بكلية الطب-جامعة الملك سعود بالرياض
واستشاري الطب النفسي والطب النفسي الجسدي