وهناك العديد من الدراسات تفيد بأن فيروس كورونا المستجد لا يكتفي بالجهاز التنفسي، ولكنه يصيب القلب وأعضاء أخرى شديدة الأهمية كالجهاز الهضمي.
في هذا الإطار، أظهرت دراسة حديثة أجراها علماء من كلية الطب بجامعة واشنطن أن فيروس كورونا المستجد يستطيع إصابة خلايا الجهاز الهضمي، ولكنه قد لا ينتقل عبر فضلات المرضى. تفيد الدراسة أن الفيروس قادر على إصابة الخلايا المعوية البشرية الناضجة في الأمعاء الدقيقة، ويعتقد الباحثون أنها قد تكون على صلة بأعراض الإسهال التي لوحظت لدى العديد من مرضى كوفيد-19.
وكشفت الدراسة عن نوعين من الإنزيمات يساعدان الفيروس على إصابة خلايا القناة الهضمية. تضمنت الدراسة ملاحظة سلوك خلايا الأمعاء البشرية المزروعة معمليًّا فى سوائل مشابهة لتلك التي تُفرز في الجهاز الهضمي للبشر، ورصد قدرة الفيروس على البقاء في تلك الظروف، مع فحص لعينات من فضلات الجهاز الهضمي الخاصة بمرضى كوفيد-19.
وكانت عدة تقارير سبق نشرها، بعد ظهور جائحة كوفيد-19، قد أشارت إلى إصابة حوالي 50% من المرضى بأعراض منها المغص المعوي أو الإسهال وفقدان الشهية والقيء، حتى قبل ظهور أعراض التهاب الجهاز التنفسي.
كان ذلك مؤشرًا خطيرًا استدعى انتباه الباحثين وسط تخوفات بشأن ما إذا كان الفيروس قادرًا على الانتشار بين البشر من خلال المراحيض، وزادت التخوفات بعدما كشفت دراسات عن وجود المادة الوراثية للفيروس بكميات كبيرة في فضلات الجهاز الهضمي لبعض المصابين.
مُساعدة خفية
وكما ورد في تقرير سابق نُشر في مجلة للعلم، تحت عنوان كيف يغزو فيروس «كورونا» خلايانا، يرتبط البروتين (S) الذي يشكل النتوءات الشوكية الموجودة على سطح الفيروس بمُستقبل ACE2 الموجود على سطح الخلايا البشرية، في خطوة تمهيدية لدخول الفيروس إلى الخلية.
يوجد مُستقبل ACE2 على خلايا الأمعاء بكثرة، يصاحبه نوعان من الإنزيمات يسهلان عملية دخول الفيروس للخلية، يقول سيوان دينغ، المؤلف المراسل للدراسة، والأستاذ المساعد في قسم الأحياء الدقيقة الجزيئية، كلية الطب بجامعة واشنطن في سانت لويس، فى حديثه لـ"للعلم": "لكي يدخل الفيروس إلى خلايا الأمعاء يحتاج إلى تعديل فى البروتين (S)، ينتج عنه ظهور جزء مخفي من تركيب البروتين، يحدث هذا التعديل بمساعدة إنزيمي TMPRSS2 وTMPRSS4".
تنتمي تلك الإنزيمات إلى عائلة "بروتياز السيرين"، وهي نوع من البروتينات يحفز عملية قطع البروتين فى منطقة وجود الحمض الأميني (سيرين). إيقاف عمل هذا النوع من الإنزيمات قد يكون إستراتيجيةً واعدةً لعلاج مرض كوفيد-19، ومن حسن الحظ أنه يوجد بالفعل أدوية مثبطة لهذه الإنزيمات كعقار Camostat وهو دواء معتمد في اليابان لعلاج التهاب البنكرياس. يشير "دينغ" إلى أن الفيروس قد يستخدِم أنواعًا أخرى من الإنزيمات، لذا ربما تكون هناك حاجة إلى استخدام أكثر من مادة مُثبطة ليكون علاجًا فعالًا.
بعد دخول الفيروس إلى الخلية، يبدأ فى تسخيرها في خدمته وإنتاج البروتينات التي يحتاج إليها للتكاثر، قبل أن يبدأ فى الخروج بحثًا عن عائل جديد، وخلال تلك الرحلة لا بد من أن يتغلب على العصارات الهضمية التي يفرزها الجهاز الهضمي أولًا، لكي يبقى فى صورة نشطة ويحتفظ بقدرته على إحداث العدوى.
أغلب الفيروسات التي تصيب البشر بنزلات معوية لا تحتوي على غلاف دهني -مثل فيروس الروتا- وذلك يُكسبها قدرة عالية على مقاومة الإفرازات الهاضمة، وبالتالي تنجح في التكاثر في خلايا الأمعاء والخروج بسلام عند إصابة المريض الذي غزت جسمه بالإسهال، لتبدأ رحلة عدوى جديدة من خلال الوصول إلى مريض آخر بعد تناوُل طعام أو شراب ملوث بالفيروس، وهو ما يسمى بـ"الطريق الفموي الشرجي للعدوى".
لتحديد قدرة الفيروس كورونا المستجد على النجاة من عملية الهضم، وضعه "دينغ" وزملاؤه في عدة سوائل تشبه في تركيبها إفرازات المعدة والأمعاء الدقيقة والغليظة لفترات محددة، ثم قاموا بمحاولة عزل أي فيروس متبقٍّ بشكل نشط، أي قادر على إحداث العدوى، بعد التعرُّض لتلك السوائل ومحاولة زرعه فى خلايا داخل المعمل.
هل ينجو كورونا من الهضم؟
وجد الباحثون أن فيروس كورونا المستجد يفقد قدرته على العدوى في خلال دقائق من وضعه في السائل المشابه لإفرازات المعدة، الذي يتميز بالحموضة العالية، أما في السائل المشابه لإفرازات الأمعاء الدقيقة فإن حوالي 50% من الفيروس تحمَّل حتى 24 ساعة واستمر في قدرته على إحداث العدوى، في حين أنه فقد قدرته على العدوى بعد حوالي 24 ساعة في سائل الأمعاء الغليظة.
يقول حازم غنيم، الأستاذ المساعد في قسم العدوى الميكروبية والمناعة بكلية الطب بجامعة ولاية أوهايو الأمريكية، في حديثه مع مجلة "للعلم": "بالرغم مما أظهرته الدراسة من قدرة إفرازات المعدة على قتل الفيروس بفاعلية، فإنه ما زال يستطيع العبور بنجاح إلى خلايا الأمعاء والتكاثر بداخلها لدى نسبة ملحوظة من المرضى، ويتأثر ذلك بالحالة الصحية لمعدة المصاب، فمثلًا من المرضى مَن يتعاطى مضادات الحموضة، كذلك يتأثر بمدى سرعة عبور الفيروس -خاصةً لو انتقل بجرعات عالية- إلى الأمعاء".
عند الإصابة بالإسهال فإن الطعام يعبر إلى الأمعاء بشكل أسرع، مما يقلل من مدة تعرُّض الفيروس للعصارات الهضمية ويزيد من فرص نجاته وخروجه مع الفضلات.
فحص الباحثون 10 عينات براز من مصابين بكوفيد-19 في محاولة لعزل الفيروس، ولكنهم لم يتمكنوا من ذلك، على الرغم من وجود المادة الوراثية الخاصة به في ثلاث من تلك العينات.
يعتقد البعض أن قلة عدد العينات المستخدمة فى الدراسة تعتبر أبرز نقاط ضعفها، كما يقول محمد بهي الدين، الأستاذ المساعد في قسم الأحياء الدقيقة والمناعة، كلية الصيدلة بجامعة الإسكندرية، فى تصريحاته لـ"للعلم": "عشر عينات عدد قليل جدًّا لا يكفي لإعطاء نتائج حاسمة، وبينما لم يتمكن الباحثون من زراعة الفيروس من عينات البراز، هناك دراسات تمكنت من ذلك".
وكانت دراسة صينية -أُجريت في المعهد القومي لمكافحة الأمراض الفيروسية والوقاية منها في بكين- قد أكدت أنه تم عزل الفيروس من عينات فضلات مرضى كوفيد-19، كذلك أفادت دراسة أخرى أجرتها جامعة جيجيانغ الصينية بالتعاون مع المعهد ذاته أن بُراز المرضى قد يكون من مسببات العدوى.
يتفق "غنيم" مع ذلك، قائلًا: "لم توضح الدراسة ما إذا كان المصابون يعانون من الإسهال وقت أخذ العينات أم لا، كذلك مدة الأعراض ومدى حدتها لديهم، تلك العوامل قد تكون مهمة لدقة النتائج".
كما أشار إلى نقطة ضعف أخرى، هي استخدام السوائل المشابهة للعصارات الهضمية، والتي قد تكون مطابقةً للسوائل الفعلية لدى الأصحاء، ولكنها قد تختلف في تأثيرها عند الإصابة بالإسهال. يتفق "بهي الدين" مع ذلك أيضًا، مشيرًا إلى أن وجود الطعام داخل أعضاء الجهاز الهضمي قد يحمي الفيروس من الهضم.
هل نفكر مرتين قبل استخدام أي مرحاض؟
استطاع الباحثون عزل فيروس سارس الذي انتشر عام 2003، من فضلات المرضى، وأصدرت منظمة الصحة العالمية WHO تقريرًا يفيد بإمكانية انتقاله عن طريق مياه الصرف الصحي. لذا شدد التقرير على أهمية استخدام أنظمة سباكة مناسبة للتخلص من مياه الصرف الصحي. يعتقد "بهي الدين" أن غسل اليدين بعد استخدام المرحاض والتخلُّص من مياه الصرف أمر بالغ الأهمية. ويقول: "يمكن للفيروس أن ينتشر عندما يلمس مريض الأسطح الملوثة بعد استخدام المرحاض ولم ينظف يديه بشكل جيد".
بينما لا يوجد دليل قاطع حتى الآن على انتشار مرض كوفيد-19 من خلال المراحيض، يشير "دينغ" إلى أن إبقاء غطاء المرحاض مغلقًا عند صرف المياه يُعد من الممارسات الجيدة عمومًا، ويساعد على منع انتشار مُسببات الأمراض المعوية الأخرى، مثل فيروس الروتا والنوروفيروس والسالمونيلا.
ويقول "بهي الدين": "عندما بدأت جائحة كوفيد-19 كانت التوصيات بارتداء قناع الوجه مقتصرةً على المرضى والعاملين في مجال الرعاية الصحية، كذلك لم تتجه جميع الدول إلى تطبيق التباعد الاجتماعي، والآن هناك توصيات شديدة بارتداء الجميع لقناع الوجه والالتزام بالتباعد الاجتماعي".
يخطط باحثو الدراسة الآن لاستمرار الأبحاث من أجل تقييم ما إذا كانت الحالات الكامنة لأمراض مثل أمراض الأمعاء الالتهابية قد تؤثر على النتائج السريرية لمرضى كوفيد-19. وهو الأمر الذي يؤكد "بهي الدين" أهميته بقوله: إن الدراسة "تتناول نقطة بحثية قد تؤثر في إستراتيجيات السيطرة على فيروس كورونا المستجد".