ملموسة. والإبداع ليس حالة كامنة في نفوس بعض الأفراد تتطلب البحث العميق والتقصي الدقيق لإظهارها بل هو واقع موجود في الحياة وبين مختلف شرائح الناس، بل إنه مواز لمفهوم الحياة من حيث الصيرورة والتجدد، فهو مجموعة مهارات يكتسبها الإنسان بالخبرة والدراسة والبحث والمران ويستخدمها سواء على المستوى الشخصي لتحقيق انجازات علمية أو فنية أو أدبية تخدم المجتمع وتحقق له الشهرة والمكانة، أو على مستوى عمله لتحقيق التميز في الأداء المؤسسي.
والإبداع لا يقتصر على فئة أو شريحة أو جنس معين، بل انه ظاهرة إنسانية عامة، فقد خلد لنا التاريخ مجموعة من العلماء المبدعين والعالمات المبدعات في شتى صنوف المعرفة والعلم وفي مختلف أرجاء العالم وخاصة في البلدان المتقدمة التي لم تقف طويلا أمام جنس المبدع ذكرا كان أو انثى لأن الاثنين يتمتعان بذات البيئة المحفزة والداعمة والمحتضنة للإبداع، حيث يمثلان ثروتها الحقيقية ورأسمالها الذي لا ينضب، لذا سعت إلى جذب المبدعين والعلماء من الجنسين ومن مختلف دول العالم للتوطن في بلدانها والعمل في مؤسساتها. اما في دولنا العربية بعامة والخليجية على وجه الخصوص فلعقود خلت والمرأة لم تأخذ المكانة التي تليق بها في صنع التاريخ جنبا إلى جنب مع اخيها الرجل ولم تمنح الفرصة الكاملة لتطلق امكاناتها الإبداعية لتسهم في البناء الحضاري لبلدانها على الرغم من المبادرات الحكومية والمؤسسية والفردية لتمكين المرأة من المشاركة في مسيرة التنمية، فإن كل ذلك ظل يدور في فلك المبادرات الموسمية والمحدودة ولم يتحول إلى قاعدة بنيوية وفكرية وثقافية وتشريعية يقرها المجتمع ويسعى إلى تنفيذها، على الرغم من الانجازات العلمية والثقافية والحضارية التي حققها العديد من النساء العربيات عبر تاريخنا المعاصر واثبتن انهن قادرات على تحمل المسؤوليات الكبرى في مختلف المجالات، وفي أدق التخصصات العلمية والفنية وتمكن من المنافسة والتفوق ليس على أفراد بل على مؤسسات مشهود لها بالكفاءة والمهارة والخبرة ومنهن على سبيل المثال العالمتان العربيتان الدكتورة هدى عماش رئيس مجمع علم الأحياء الدقيقة العراقي والدكتورة رحاب طه استاذ علم الأحياء المجهرية بجامعة بغداد سابقا، والدكتورة انتصار السحيباني المتخصصة بعلم الوراثة في جامعة الملك سعود التي فازت بإحدى جوائز لوريال واليونسكو للباحثات المتميزات في مجالهن في مرحلة ما بعد الدكتوراه لعام 2010، والدكتورة ريحانة عبدالمنعم المجني المتخصصة بعلم الوراثة في جامعة السلطان قابوس بسلطنة عمان التي فازت بذات الجائزة لعام 2011، والدكتورة أحلام العوضي التي كانت أول امرأة تحصل على براءة اختراع من مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية، والدكتورات عايدة العقيل، ووفاء العبيد، وجمانة الأعمى من المملكة العربية السعودية والدكتورة شيخة العريض من البحرين المتخصصات في علم الاجنة اللاتي تم تكريمهن من قبل سمو الأميرة سبيكة بنت إبراهيم آل خليفة رئيسة المجلس الأعلى للمرأة في مملكة البحرين لعطائهن وتميزهن العلمي عام .2009
وها نحن اليوم نقف امام واحدة من المبدعات الخليجيات في واحد من أدق التخصصات الطبية (جراحة المخ والاعصاب) انها الدكتورة عائشة الحجاج التي شاء الله جل في علاه ان أراقب عن كثب أداءها وسجلها وتاريخها الطبي على مدى أكثر من شهرين متواصلين، واجدها تتجاوز بكفاءة واقتدار إشكالية ربط التخصصات الطبية الدقيقة بالرجولة ليس في بلادنا العربية بل في بلدان عديدة وسنحت لي الفرصة لأناقشها في مرئياتها لتفاصيل عملها الدقيق وكيفية اتخاذها للقرارات الحاسمة تجاه الحالات غير المتوقعة التي تواجهها في غرفة العمليات وهي تقود فريقها الطبي بمجمع الملك فهد الطبي العسكري، فكانت بحق واحدة من العالمات المبدعات اللاتي جمعن بين العلم والفطنة والإيمان والرقة والسمو الأخلاقي فضلا عن التواصل العلمي والمعرفي ودراسة وتحليل مختلف الظواهر والأطوار التي يمر بها مرضاها ومقارنتها بحالات سابقة بما يوفر لها قاعدة معلوماتية كافية لاتخاذ قراراتها العلاجية، فحققت نجاحات مشهودة في مجالات طبية جديدة مثل استخدام الأسمنت العظمي لمعالجة كسور العمود الفقري وهو مادة طبية شبه صلبة تتميز بسرعة التجمد داخل الجسم البشري، ومعالجة التشنجات العصبية الناتجة عن تشوه بالأوعية الدموية الدماغية التي قد ينتج عنها نزيف بالدماغ عن طريق القسطرة العصبية التشخيصية من دون التدخل الجراحي، وأعادت البسمة والامل في الحياة بإذن الله تعالى لمرضى ميئوس من شفائهم.
ومما ينبغي ذكره ان الدكتورة عائشة الحجاج هي أول سعودية تتخصص في جراحة المخ والأعصاب، ومما يدعو إلى الفخر والاعتزاز انها متخرجة في جامعة عربية سعودية وأمضت فترة التدريب بمستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز الأبحاث بالرياض وحصلت على التخصص والزمالة من جامعة الملك فيصل،وقد واجهت في حياتها العديد من التحديات المهنية والوظيفية التي لم تؤد إلى احباطها، بل دفعتها إلى المزيد من التصميم على الابداع والتميز تحقيقا لرسالتها الإنسانية وخدمة لوطنها العزيز، حتى أضحت انجازاتها الطبية وبحوثها العلمية المتعددة إضافة ابداعية علمية متميزة للمرأة الخليجية، حري ان يفتخر بها ويوفر لها البيئة العلمية المواتية للمزيد من العطاء والارتقاء، ويتاح لها أفضل فرص المشاركة في المؤتمرات الطبية المتخصصة، وزيارة المؤسسات الطبية المتطورة ذات الصلة بتخصصها فضلا عن توفير احدث الأجهزة والمعدات والتقنيات الطبية والتأهيلية المساعدة التي تعزز من قدرات مؤسساتنا الطبية الخليجية وتيسر لأطبائنا الأكفاء فرص الإبداع والتطور.
* الاستاذ اسعد السعدون- أكاديمي وخبير اقتصادى